ابن أم مكتوم رجل من رجالات مكة , لم يكن له وضع وثقل بين القبائل عامة , وأهل قريش خاصة ,ولم تسمع به الدنيا قبل الإسلام , ولم يكن له صوت ولا حديث فيها , بل كان رجلا عاديا يعيش لنفسه مع نفسه , ولا يعرف له اسم أو رسم على التأكيد , الأمر الذي يوجد الاختلاف في اسمه , فأهل المدينة يقولون :عبد الله بن قيس بن زائدة بن الأصم بن رواحة القرشي العماري .
وأما أهل العراق فسموه عمرا .
وأمه :عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بن عامر بن مخزوم بن يقضة المخزومية .
فقد بصره صغيرا , وعرفته دروب مكة وأزقتها دؤوبا في طلب الرزق لا يهدأ , متنقلا يبحث عن المعرفة لا يتعب .
إن فقد بصره حال بينه وبين معرفة الكثير من الأشياء ,ولكنه يريد أن يعرف ,ويعرف كل شيء ,فاستعاض عن عينه بأذنيه ,فاستعملهما في معرفة الأشياء ,فكان يسمع ولا ينسى , وتوصف له الأشياء فتبقى مجسمة في ذهنه متخلية في وجدانه .
سمع ذات يوم بتسلل العبيد والخدم والمستضعفين إلى دار ابن الأرقم يستمعون إلى محمد صلى الله عليه وسلم , وأحس أن في مكة حركة غير عادية , فالأعصاب مشدودة من سادة قريش , والعبيد والخدم يسامون الضرب والتعذيب , كل ذالك بسبب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم .
حينئذ قرر الذهاب إلى دار ابن الأرقم ليسمع كما يسمعون , وليعرف الخبر اليقين , فحمل عصاه وذهب هناك .
ولأول مرة تطرق أذنيه كلمات فتنزل إلى القلب مباشرة فتعطيه السكينة والأمان , وتهبه قوة لا تبالي بقوة الأرض كلها مجتمعة , إنها كلمات الوحي التي نزل بها قوة جبريل الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم لتقرر وحدانية الخالق , وتسوي بين البشر جميعا , وتحقق العدل بين الأقوياء والضعفاء , وتملأ الأرض نورا بعد أن ملئت ظلما وجورا .
ومد ابن أم مكتوم يده إلى رسول صلى الله عليه وسلم معلنا إسلامه , ومقررا انضمامه إلى كتيبة الإيمان , معاهدا الله ورسوله على بذل روحه في شيء .
كان يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم وحوله حلقة من الرجال الأول يسمعون ويفهمون , ويسأله وهو في طريقه إلى الكعبة , ويسأله وهو يعترض طريق الرجال ليدعوهم إلى الإسلام .
هاجر ابن أم مكتوم إلى المدينة , ونزل في دار القراء , وأخذ يؤدي مهمته التي أعد نفسه لها , مهمته في تعليم الناس مبادىء الدين , ومهمته في تحفيظهم بعض آيات الذكر الحكيم , ومهمته في تهيئة النفوس والقلوب في استقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولم يلبث طويلا حتى جاءته الأنباء يقرب وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة , وخرج مع وفود المستقبلين يتنسم أخبار الحبيب , ويترقب لحظة وصوله حتى يشنف أذنيه بسماع حديثه واستيعاب هديه .
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في دار بني النجار , ثم أخذ في بناء مسجده , ليكون المدرسة الكبرى لأول جيل عرفته البشرية يحمل هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر أوقاته , لم يتخلف عن صلاة واحده خلفه ,ولم يغب عن حلقة من حلقات التوجيه النبوي ,ولم تند آية واحدة من آيات الذكر الحكيم من فكره وعقله .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالأذان للصلاة إذا ما غاب بلال ,وكان صوته العذب يدوي بكلمة الله أكبر خمس مرات في اليوم .
ولقد كان بلال يؤذن في رمضان فلا يمتنع الناس عن الطعام والشراب ؛ لأن أذانه فقط لإيقاظ النائم وتنبيه الغافل , فإذا أذن ابن أم مكتوم كان هذا إيذانا بالامتناع عن الطعام والشراب وإمساك الصائمين , فعن ابن عمر رضي الله عنه قال : ( إن بلالا يؤذن بليل , فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم) , وكان أعمى لا ينادي حتى يقال له : أصبحت أصبحت .
وابن أم مكتوم هذا من أولئك الرجال الذي أشربت قلوبهم حب النبي صلى الله عليه وسلم , فهو أحب إليه من الأهل والعشيرة , أحب إليه من الزوجة والولد .
بل أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه , وكل واحد من الصحابة الأبرار – وأبن مكتوم منهم – قد يتحمل الإساءة تقدم إلى أهله وذويه , يكظم غيظه , ويعفو ويصفح , ولكنه لا يقبل بأي حال من الأحوال أن يمس شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بأذى.
لقد كان ابن أم مكتوم صوّاما , لم يراه أحد إلا في عبادة , أو متجها لأداء عبادة , أو مشاركا للمسلمين في أمر يهمهم , ولما نزل قوله تعالى “: لا يستوي القاعدون من المؤمنين …. والمجهادون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم “ فسمع بذلك ابن أم مكتوم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمل الآية على زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي , فثقلت علي , حتى خفت أن ترض فخذي , ثم سري عنه , فأنزل الله غير أولى الضرر .
وقرر ابن مكتوم أن يكون له أجر المجاهد , وطلب من إخوانه أن يشركوه معهم في حروبهم , واستجابوا له , ورافق الجيش المتجه إلى القادسية .
وعندما وصلوا إلى ميدان المعركة قال :
يا أحباب الله ,يا أصحاب محمد , يا أبطال المعارك , ادفعوا إلي اللواء , فإني رجل أعمى لا أستطيع أن أفر , وأقيموني بين الصفين .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عبد الله بن أم مكتوم يوم القادسية كانت معه راية سوداء ,عليه درع .
ثم عاد رضي الله عنه إلى المدينة فمات بها .
وبعد ,فلقد كان ابن أم مكتوم أعمى البصر ,ولكن كان نافذ البصيرة ,أنزل الله فيه قرآنا , فكان هذا إيذانا من الله تعالى بقيام دولة الموحدين القانتين ,العاملين بشريعة الله في الأرض ,
كان هذا إيذانا من الله بتثبيت القيم الإيمانية التي على أساسها يتفاضل الناس بقيم الإيمان والتقوى ” إن أكرمكم عند الله أتقاكم “
ومن ذلك اليوم ,أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يستقبل المستضعفين , والذين دوى صوتهم في جنبات الأرض يحملون للبشرية كلها الأمن بعد الخوف , والنور بعد الظلام , والهدى بعد الضلال , فاستقبلتهم الدنيا أحسن استقبال ,وأقامتهم على ظهرها قادة ومعلمين …