بعد انتظار دام أربع سنوات … وقبل أيام قرأ اسمه في الجريدة للمرة الأولى …
كان هذا الحدث التاريخي الأميز في مسيرته …
واليوم توسد مقعده المهترئ في سيارته الكسولة , بعد أن سكب قارورة ماء كانت بمثابة جرعة دواء في جوفها
المريض , انطلق بها وهي ترجف من وعورة الطريق المؤدي إلى مدرسته في تلك القرية النائية …
وما هي إلا ساعة حتى قذفت تلك المركبة من جوفها رجلاً شاحب الوجه … بدت تقاسيم وجهه الغامضة وكأنها
تشير إلى دخوله معركة لا يملك فيها سلاحاً.
خطّ اسمه في دفتر ” الدوام ” …
ارتشف فنجان قهوة مزيفة من يد عامل المدرسة .
فجأة دقّ جرس الاصطفاف الصباحي …
أخذ زملاؤه القدامى يتقاطرون على المدرسة تباعاً …
تأمل في وجوهم … لم ير ما يدعوه للشعور بالاطمئنان … أدرك أنه مقبلٌ على يومٍ عصيب …
استدعاه المدير , وأشهر في وجهه قطعة من ورقة خيّل إليه أنها طلاسم من السحر …
وبينما كان يحاول فكّ رموزها , قاطعه جرس المدرسة قائلاً : رن رن رن …
تأبط أقلامه , وأسرع إلى الحصة الأولى …
دخل فسلّم , ثمّ حمد الله , وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم …
ثم استهل حديثه بالحديث عن مكانة اللغة العربية , وشرح بإيجاز لطلابه الجدد عن المادة التي سيدرسهم إياها …
ثمّ أعطى لطلابه الفرصة لكي يعرفوا بأنفسهم …
مرّت الأيام سراعاً في البداية , لكنّها بدأت تكشف عن أنيابها يوماً بعد يوم …
أصرّ على أن يقاوم غطرسة مديره الذي ما فتئ يذكره بأن هذه السنة هي سنة تجريبية …
ابتلع ملاحظات المشرف التربوي الذي ما زال يرتدي عباءة ” المفتش ” …
غضّ الطرف عن التقطيب الذي يعلو ملامح تلاميذه عندما يدخل عليهم … حينما يقارنه بملامحهم عندما تحين
حصة التربية البدنية …
كان يبتلع الأخطاء الإملائية عندما يقوم بتصحيح أوراق الطلاب …
لم يصبه الملل من تكرار : اسكت … انتبه … استيقظ …
لم يرحم قلمه من التوقيع على ” تعاميم ” لا علاقة له بها …
حتى أنه اليوم وقّع على تعميم بشأن ضياع ختم شيخ هجرة بني فلان !
لم يتعب من مطاردة الطلاب في الفسحة , وهم يتقاذفون علب العصير , ويتزاحمون أمام ” المقصف المدرسي ”
كأنهم أتوا من مجاعة .
لم يظهر حزنه لمنظر بقايا الخبز تدوسها الأقدام …
لم يتضجّر من الطاولات التي أضحت مرسماً حرّاً لعديمي المواهب …
…
حبس دمعته على كتاب ” النصوص ” عندما يرمى بدون ذنبٍ بعد نهاية الامتحان …
لم يفكر بالانتقام للمتنبي أو لشوقي أو حافظ إبراهيم …
لا بأس … فكتاب الحديث الشريف رآه بالأمس مطروحاً , فكيف بهؤلاء ؟!
…
بلغ من اليأس مبلغاً عظيماً … فلم تكن تلك هي الصورة التي رسمها للتعليم …
عاد للوراء كثيراً … تذكّر كيف كان على مقاعد الدراسة … ثمّ راح في مقارنة يائسة فوجد البون شاسعاً …
انتهت الحصة السابعة …
انطلق فرحاً كأنما أطلق من قيد …
ركب سيارته متجاهلاً ما نقشه الطلاب على جسمها , ومضى نحو بيته …
فتح المذياع فبادرته إذاعة القرآن الكريم :
:::
…. عن سَهْل بنِ سَعد رَضيَ اللهُ عنهُ أنَّ النَّبيَّ صَلى اللهُ عليْه وسلم قال لعليٍ رضي اللهُ عنهُ
فو اللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ
ـ متفق عليه ـ
________________________________________
عن أبي هُريرةَ رَضيَ الله ُ عنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عليْه وسَلـَّمَ قال
وَ مَنْ سَلَكَ طَرِيْـقـَاً يَلْتَمِسُ فيْهِ عِلْمَاً سَهَّلَ اللهُ لهُ طَرِيْقاً بِهِ إلى الجَنَّةِ
ـ رواه مسلم ـ
________________________________________
عن أبي هُريرةَ رَضيَ الله ُ عنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عليْه وسَلـَّمَ قال
مَن دَعَا إلى هُدَى كانَ لـَهُ مِنَ الأجْرِ مِثلُ أُجُورِمَنْ تبعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِم شَيئْاً
ـ رواه مسلم ـ
________________________________________
…
بدت وكأنها المرة الأولى التي يسمع فيها تلك الأحاديث …
تنحى جانب الطريق …
أخرج قلمه , وأعاد كتابة بعض هذه الأحاديث في الصفحة الأولى من ” دفتر التحضير ” …
ومضى في حفظ الله .
6 Comments